هل يمحو ترامب «ميراث ريجان» في الحزب الجمهوري؟
د. أيمن سمير
على مدار أكثر من 35 عاماً كان ينظر للحزب الجمهوري الأمريكي الحالي باعتباره «نسخة الرئيس الراحل رونالد ريجان» الذي حكم في الفترة من يناير 1981 حتى يناير 1989، وتمكن من تحويل «أجندة الحزب الجمهوري» إلى أجندة يمينية، ونجح من خلال توظيف هذه الرؤية «المحافظة» للقضايا الداخلية والخارجية في جذب الملايين من «المستقلين والمتأرجحين» حتى إن بعض «الديمقراطيين المعتدلين» كانوا يدعمون رؤيته، وأطلق على هؤلاء «ديمقراطيو ريجان»، وهؤلاء صوتوا له بشكل مكثف في الولاية الثانية التي بدأت في 20 يناير 1986 وحتى يناير 1989
يمكن القول اليوم إن «ميراث ريجان» يتعرض لضغوط هائلة، وامتحان قاس، وتآكل معالمه من الرئيس المنتخب دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس عبر سيطرة الرئيس المنتخب، على «الأجنحة الخمسة» للحزب الجمهوري، ويتضح هذا بسهولة في «الأجندة الشعبوية» التي باتت تحكم جدول أعمال الحزب الجمهوري للفترة المقبلة، ومواقف النخبة السياسية الجمهورية التي لا يتجرأ فيها أحد على مناهضة أو معارضة الرئيس دونالد ترامب، فكل الذين نافسوا وعارضوا ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري تحولوا إلى الدعم الكامل «وغير المشروط» لكل كلمة يقولها ترامب وفي مقدمة هؤلاء المرشحون الرئاسيون السابقون من الحزب الجمهوري مثل رون ديسانتس، ومارك روبيو، وفيفيك راماسوامي، وكذلك نيكي هايلي التي ظلت في السباق التمهيدي حتى آخر يوم، ومن يراجع معالم البرنامج الانتخابي للحزب الجمهوري، والذي صاغه ترامب بنفسه، يتأكد أن الساكن الجديد في البيت الأبيض نجح ليس فقط في صبغ الحزب الجمهوري «بالصبغة الترامبية»، بل و«المزايدة» على ميراث الرئيس ريجان، فعلى سبيل المثال كان «حلم ريجان» بناء «قبة حديدية» لحماية الولايات المتحدة من الصواريخ القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى على غرار «القبة الحديدية» الإسرائيلية لكنه فشل في تحقيق ذلك، واليوم يتضمن برنامج دونالد ترامب فصولاً خاصة عن «بناء القبة الحديدية» مع إشارة ترامب دائماً إلى أن ريجان حاول، لكنه هو من سيفعلها.
والذي يعزز من إصرار ترامب نحو بناء «هوية جديدة» للحزب الجمهوري هو قيادة الرئيس المنتخب للجمهوريين للفوز ليس فقط بالبيت الأبيض، بل وبمجلسي الشيوخ والنواب، مع وجود أغلبية واضحة داعمة له في المحكمة الدستورية العليا، وهو الأمر الذي دفع الكثير من مشاهير الفن والفكر الأمريكي ومنهم الممثل الهوليودي الشهير سلفستر ستالون لوصف ترامب بأنه «جورج واشنطن الثاني» الذي سيغير أمريكا والعالم، فهل يمحو ترامب ميراث الرئيس ريجان، ويعيد صباغة الحزب الجمهوري «بالصبغة الترامبية» فقط، أم أن محاولات ترامب لبناء «نفوذ شخصي» تتعارض مع «ميراث ريجان»، لا يمكن محوه في 4 سنوات فقط؟
ثورة ريجان
نجح الرئيس رونالد ريجان في تحقيق «ثورة» بمعنى الكلمة، وأطلق على تلك الفترة بأنها «العصر السادس» في الشؤون الداخلية والخارجية الأمريكية التي تركت آثارها حتى بعد ترك ريجان مقاليد الحكم وترسخت بشكل حقيقي في دهاليز وأيدلوجيا الحزب الجمهوري، لأنها قامت على مجموعة من المسارات الاقتصادية والاجتماعية في مقدمتها الحفاظ على تماسك الأسرة، وتخفيض الضرائب من خلال إقرار قانون ضريبة الانتعاش الاقتصادي عام 1981، ووصلت السياسات المحافظة التي وضعها ريجان إلى موضوعات الرفاهية والدفاع والقضاء في الداخل، والحرب الباردة في الخارج، وامتدت أفكار ريجان إلى مرحلة بعيدة حتى عام 2010 عندما نجح الجمهوريون في تمرير قانون المسؤولية الشخصية والفرص، وهو قانون وضع عدة قيود جديدة على من يتلقون المساعدة الفيدرالية وكان أحد أفكار ريجان، ونجح ريجان في تقليص اندفاع الليبراليين الذي حدث في عهد سلفه جيمي كارتر في الجوانب الاجتماعية، حيث قاد ريجان تياراً دينياً ملتزماً ضد الانفلات الأخلاقي، وساعد ريجان على تحقيق ذلك فوزه ب 44 ولاية، وسيطرة الجمهوريين لأول مرة على مجلس الشيوخ منذ الخمسينيات.
مساحة مشتركة
كثيراً ما يتحدث الرئيس المنتخب دونالد ترامب عن الرئيس رونالد ريجان، وهناك خطوط عريضة يدعمها ترامب شكلت خلال العقود الأربعة الماضية الأساس الفكري والأيدلوجي للحزب الجمهوري منها معاداة السياسات اليسارية القائمة على كثرة الإنفاق، ورفض الأنظمة الصحية التي يسوقها الحزب الديمقراطي مثل «أوباما كير»، وإن كلاً من ترامب وريجان هدفهما تحسين الأداء الاقتصادي ورفع مستوى النمو وخفض معدلات التضخم، والارتكاز على قاعدة الناخبين البيض، وتعزيز الصناعات المحلية وخاصة الصناعات الاستراتيجية مثل صناعات السلاح والفضاء والحديد، وتقليل إنفاق الحكومة الفيدرالية، ودعم سياسات اجتماعية محافظة ترفع من قيم العائلة،
كما أن كلاً من ترامب وريجان يتفقان على ضرورة تقوية الجيش الأمريكي ليكون القوة الضاربة الأولى في العالم، ففي عهد ريجان كان الجيش الأمريكي خاصة في أوربا يتفوق على آلاف الجنود السوفييت المنتشرين في أوربا الشرقية، واليوم يسعى ترامب لمزيد من الإنفاق العسكري على الجيش، وتحديث القدرات النووية الأمريكية، وعدم الالتزام بأي اتفاقية استراتيجية لا تلتزم بها الصين وروسيا.
حقبة ترامب
قراءة البرنامج الانتخابي الذي كان يتكون من 21 بنداً واختزله ترامب بنفسه إلى 7 قضايا رئيسية تكشف أن هذه الأفكار الجديدة لم يأت بها ترامب لسنواته الأربع فقط في البيت الأبيض، بل يراهن أن تكون عنوان ومذهب الحزب الجمهوري للسنوات والعقود المقبلة، ولعل اختيار جي دي فانس كنائب لترامب يأتي في هذا السياق، فالطبيعي أن يكون فانس مرشح الحزب الجمهوري في انتخابات 2028 و2032، وهو من أكثر القيادات الشابة المؤمنة بنهج ترامب، والتي تختلف مع ميراث ريجان في عدد من الملفات والقضايا، وحقق ترامب كل هذا عبر السيطرة على الأجنحة الخمسة للحزب الجمهوري، وهي الجمهوريون المعتدلون، وتيار الجمهوريين التقليديين، والجمهوريون المتشددون، وحزب «الشاي» وهي جزء من تيار أكبر يطلق عليه «تجمع الحرية».
ولهذا باتت الترامبية الجديدة تقوم على مجموعة من الأيدلوجيات وهي:
أولاً: الانكفاء على الذات
كانت رؤية ريجان للسياسة الخارجية طموحة للغاية، وعزز الإنفاق على حلفاء الولايات المتحدة، وخاض «حرب النجوم» ضد الاتحاد السوفييتي السابق، ودعم تحالفات واشنطن في أوربا وفي آسيا والشرق الأوسط، وأسهمت جهود ريجان طوال 8 سنوات من الضغط على الاتحاد السوفييتي السابق في انهيار «حلف وارسو»، وتفكك الاتحاد السوفييتي نفسه في عهد من جاء بعده مباشرة الرئيس جورج بوش الأب.
لكن اليوم ينتهج الرئيس ترامب سياسة بعنوان «ماجا» أي نجعل أمريكا عظيمة من جديد، وتقوم على «هدف واحد» في السياستين الداخلية والخارجية هو «أمريكا أولاً»، وهي سياسة انعزالية بامتياز، ومرشحة لإحداث تصادم في «الأدوات والأهداف» بين الولايات المتحدة، وحلفائها في الخارج خاصة في أوربا و«حلف الناتو» والشركاء الآسيويين من اليابان وكوريا الجنوبية إلى فيتنام والفلبين وأستراليا، فالرئيس ترامب عازم على ما أسماه «تصحيح» العلاقة مع الأوربيين الذين باتوا يتحضرون من الآن لأي خلافات مع ترامب أو فرض واشنطن أي رسوم جمركية إضافية على الواردات الأوربية، وتتسابق الدول الأوربية الثلاثون الأعضاء في حلف الناتو للوفاء بنسبة 2% من الناتج القومي على الشؤون الدفاعية لإرضاء الرئيس المنتخب الذي يرفض أي إنفاق أمريكي إضافي لحماية الشركاء وفق «المادة الخامسة من ميثاق الناتو»، وهو أمر يتناقض تماماً مع سياسة ريجان، وتجد رؤية ترامب من الإنفاق الخارجي قبولاً كبيراً من مختلف الأوساط الأمريكية، وفي الوقت الذي أبقى فيه الرئيس ريجان سياسة أمريكية نشطة في آسيا ودعم بشكل خاص الوجود الأمريكي في اليابان وكوريا الجنوبية إلا أن الرئيس ترامب يريد أن يشاركه الحلفاء الآسيويون تكاليف الحضور الأمريكي هناك خاصة في تحالفات «أوكوس» و«كواد الرباعي»، ويسعى ترامب للتصالح مع الزعيم الكوري الشمالي عكس ريجان الذي كان يعادي كل من ينطلق بالشيوعية أو الاشتراكية.
ثانياً: الشعبوية أولاً وأخيراً
في مقابل الأجندة المحافظة التي كان يتبناها الرئيس ريجان يؤمن ترامب ونحو 75 مليون أمريكي صوتوا له في 5 نوفمبر الجاري بالطرح الشعبوي القائم على تحقيق مصالح آنية ووقتية للناخبين، فعلى سبيل المثال ينوي ترامب العودة مرة أخرى للطاقة الأحفورية التي تأتي من النفط والفحم والغاز، ولا يؤمن كثيراً بالطاقة الخضراء والهيدروجين الأخضر، واستطاع أن يكسب ولاية بنسلفانيا لأنه هاجم أجندة كامالا هاريس التي كانت ضد ما يسمى «بالتكسير الهيدروليكي» والبترول الصخري، كما ينوي ترامب الانسحاب مرة جديدة من اتفاقية باريس للمناخ التي هدفها تقليل حرارة الكرة الأرضية بنحو 1.5 درجة مئوية عام 2030
وعن طريق الشعبوية نجح ترامب أيضاً في الوصول إلى فئات كانت دائماً خارج نطاق دعم الحزب الجمهوري مثل سكان المدن الكبرى، والنساء من «الملونين» الحاصلات على شهادات جامعية، لكن الثقة في قدرات ترامب لإصلاح الاختلالات الاقتصادية دفع جزءاً لا يستهان به من نساء المدن واللاتينيين والسود والآسيويين لدعم ترامب.
ثالثاً: الاستثمار في الاستقرار
لا يرى الرئيس ترامب أي استثمار في الحروب، ويقوم مشروعه على «الاستثمار في الاستقرار» ووقف «الحروب التي لا تنتهي»، وفي ولايته الأولى أنهى حروباً استمرت نحو 16 عاماً وهي الحرب على«الإرهاب»، واليوم يطرح ترامب مقاربة تسعى لوقف الحرب في غزة وجنوب لبنان وأوكرانيا، وتعزز اختيارات ترامب وتعييناته الجديدة هذا النهج، فالمرشحة لمنصب مدير المخابرات الوطنية تولسي غابارد ضد التدخلات الخارجية في شؤون الدول الأخرى، ونفس الأمر يؤمن به مارك روبيو وزير الخارجية الجديد، ونفس الأمر بالنسبة لمايك والتز المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي، ووصل الأمر أن اتهم نجل ترامب دونالد جونيور ترامب مجمع الصناعات العسكرية بأنه يؤجج الحروب، ويسعى لحرب عالمية ثالثة.
لكن على العكس من ذلك تدخلت الولايات المتحدة في ملفات خارجية عدة في عهد ريجان، وكانت سنواته الثماني مثالاً على الضغوط الأمريكية على الوجود السوفييتي في أفغانستان والتي قادت لخروج الاتحاد السوفييتي من أفغانستان عام 1989.
رابعاً: مرونة في ملف الإجهاض
كانت مواقف ريجان شديدة الحزم والرفض لقضايا الإجهاض حتى في حدودها الدنيا، وكان يبدو للبعض أن موقف ترامب متشابه مع موقف ريجان، لكن تفاصيل الحملة الانتخابية الناجحة لترامب كشفت أنه قدم نوعاً من المرونة التي فاجأت حتى بعض قيادات الحزب الجمهوري نفسه، وهو أن ترامب لن يضع تشريعاً على المستوى الوطني يجرم فيه الإجهاض بنسبة 100%، بل سيترك الأمر للولايات، وهنا تخلص ترامب من عبء ظل يطارده بأنه ضد حقوق النساء في الإجهاض، ومن خلال هذا الموقف نزع ترامب هذه الورقة من غريمته كامالا هاريس، لكنه في نفس الوقت ترك الباب مفتوحاً لكل الاحتمالات لدى كونجرس كل ولاية، وهو موقف لا ينطوي فقط على مناورة سياسية ناجحة بل يفتح الباب أمام تغيير كبير في رؤية الحزب لهذه القضية.
خامساً: مؤسسة التراث ورؤية 2025
كان ينظر دائماً لمؤسسة «التراث» على أنها أهم ثمار عهد ريجان الفكرية، لكن بشكل صريح وعلني قال ترامب، إنه لم يلتق يوماً بهذه المؤسسة التي وضعت مسمى هذا العام برؤية «2025» وهي رؤية محافظة جداً، وجرى الترويج لها من جانب الديمقراطيين بأنها «خريطة الطريق» التي سوف يسير عليها الرئيس ترامب، وتضم هذه المؤسسة أشد الجمهوريين المتطرفين، وحاول الديمقراطيون ربط ترامب برؤية 2025 و«مؤسسة التراث» لكن ترامب بمساعدة فوكس نيوز والملياردير إيلون ماسك نجح في نفي أي علاقة له بهذه المؤسسة التي كانت تاج الخطط السياسية في عهد ريجان.
الواضح أننا أمام مرحلة جديدة ومسار مختلف للحزب الجمهوري الأمريكي بقيادة ترامب، وأن هذه السياسات سوف تستمر حتى بعد خروج ترامب من البيت الأبيض في 2029، وهو ما يقتضي من جميع الدول العربية دراسة هذا التيار الجديد الذي بات يقود أمريكا، ويؤثر في كل المعادلات الإقليمية والدولية ومنها منطقتنا العربية والشرق أوسطية.