الإرهاب في أوروبا.. أسباب كثيرة وحلول مبتورة
د. أيمن سمير
أوروبا حالة من الترقب والقلق الأمني، نتيجة انتشار الأفكار الظلامية والمتطرفة التي أنتجت سلوكاً عنيفاً وإرهابياً من جانب بعض هذه التنظيمات ضد الدولة والمواطن الأوروبي، وهو ما دفع إلى تراجع الترحيب بالمهاجرين واللاجئين في القارة العجوز، وقاد في النهاية إلى فوز الأحزاب اليمينية التي تخشى انتشار الإرهاب والتطرف القادم مع هؤلاء، وكان آخرها فوز حزب «الحرية» النمساوي بالمركز الأول في الانتخابات البرلمانية التي جرت منذ أيام قليلة.
يأتي الانشغال بالحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط في مقدمة الأسباب التي باتت اليوم توفر بيئة تطرف مثالية في أوروبا بعد أن حذر تقرير لليوربول من وجود نحو 821 شبكة إرهابية وإجرامية خطيرة في 27 دولة أوروبية، كما أن قائمة «إس» الفرنسية التي تضم أسماء المتطرفين والإرهابيين المحتملين تحتوي على 26 ألف شخص يمكن أن يقوموا بعمليات إرهابية في أي وقت.
وفق كل التحليلات التي قامت بها الأجهزة الأمنية الأوروبية فإن هناك رابطاً كبيراً بين الشبكات الإرهابية والمتطرفة من جانب والمجموعات الإجرامية من جانب آخر، وهذا يفسره انتشار ظاهرة «تجنيد المتطرفين» في السجون الأوروبية، لأن الكثير من قادة الخلايا الإرهابية في أوروبا كانوا في السابق في السجون على ذمة قضايا جنائية وليست إرهابية.
خطر إرهابي شديد
المعروف أن غالبية الإرهابيين المنفردين «الذئاب المنفردة» ينتمون فكرياً وأيديولوجياً إلى أيديولوجيات تنظيمي داعش والقاعدة، وباتت أوروبا أمام خطر إرهابي شديد منذ قتل تنظيم «داعش خرسان» لنحو 137 شخص في أحد المسارح الروسية بموسكو في مارس الماضي، وهو التنظيم الذي نشأ وترعرع في مناطق آسيا الوسطى والقوقاز، وبات يشكل خطراً أمنياً كبيراً على أوربا بعد اعتقال ألمانيا وهولندا خلايا من هذا التنظيم جاء أفراده من طاجاكستان وتركمانستان وقيرقيزستان، والذين قاموا بعمليات إرهابية في ولاية شمال الراين وستفاليا الألمانية، ومنذ مارس الماضي حيث أعلنت الكثير من وكالات مكافحة الإرهاب في أوروبا، اكتشاف عشرات المجموعات الإرهابية التي تنتمي لتنظيم داعش «خرسان»، ويستهدف هذا التنظيم بشكل رئيسي كلا من ألمانيا والنمسا وفرنسا وأسبانيا وبلجيكا.
وما يؤكد خطورة وتوسع «المد الإرهابي» في أوروبا تلك الجهود التي قام بها الجيش والشرطة الفرنسية لمنع وقوع عمليات إرهابية خلال دورة الألعاب الأولمبية التي انتهت أعمالها في باريس في 11 أغسطس الماضي، حيث سبق هذه الدورة بأيام قليلة «تخريب» شبكة السكك الحديدية الفرنسية، واكتشاف الشرطة العديد من القنابل التي كانت على متن عدد من القطارات الدولية.
الموجات القادمة
ومن شرق أوروبا وحتى غربها ومن جنوبها حتى شمالها تعمل الدول الأوروبية على منع ومواجهة الموجات القادمة من الأعمال الإرهابية. ففي ايطاليا – التي تعاني تدفق المهاجرين عبر البحر المتوسط – كشفت الشرطة عن تنامي الخلايا الإرهابية التي لها صلات بالشرق الأوسط، وتكرر نفس الأمر في هولندا وبلجيكا وأسبانيا وألمانيا، وأحبطت وكالة المخابرات الهولندية مع شركائها الأوروبيين نحو 10 هجمات إرهابية كبيرة عام 2023.
وتضمنت خطط المجموعات الإرهابية طعن المدنيين وأفراد الشرطة، وقتل أكبر عدد من رواد المناطق المزدحمة مثل المسارح والمهرجانات، وهو ما أدى لأول مرة منذ عام 2019 إلى أن ترفع وكالات المخابرات الأوروبية مستوى التحذير إلى المستوى الرابع، وهو من أعلى درجات التحذير، والذي يشير إلى وجود خطورة استثنائية واستعداد من جانب الخلايا الإرهابية لاستغلال حالة «السيولة الأمنية والعسكرية» في الشرق الأوسط، والمنطقة العربية لتبرير هجماتهم الإرهابية خلال الشهور الأخيرة من العام الجاري، وهو أمر حذرت منه أكثر من مرة مفوضة الشؤون الداخلية الأوروبية يلفا يوهانسون.
فما هي الأبعاد التي وصلت إليها التنظيمات الإرهابية في المجتمعات الأوروبية؟ وما هي الأسباب التي تغذي توسع الإرهاب في أوروبا؟ وكيف لأوروبا أن تواجه الإرهاب الجديد بأدوات واستراتيجيات غير تقليدية؟
أسباب
تقول كل المؤشرات أن أوروبا قد تشهد موجات إرهابية جديدة مثل تفجيرات باريس عام 2016 أو حتى تفجيرات مدريد 2004، ويعود ذلك لأسباب تتعلق بالسياسات الأمنية الأوروبية أو بوصول مجموعات إرهابية ضمن موجات اللاجئين والمهاجرين، وهذا يفسر لماذا تتركز العمليات الإرهابية في غرب أوربا فقط وليس في الوسط أو الشرق، ولدى أوروبا تاريخ طويل في مكافحة الإرهاب حتى قبل أحداث 11 سبتمبر 2001 حيث كانت فرنسا من أوائل الدول الأوروبية التي تعرضت لعمليات إرهابية عام 1992 من جانب ما تسمى «بالجماعة الإسلامية الجهادية» التي كان لها امتداد في الجزائر، وسبق أو وضعت الدول الأوربية مجموعة من الخطط والاستراتيجيات لمكافحة الأفكار المتطرفة، ومنع انتشار الجماعات الإرهابية حتى قبل إعلان الولايات المتحدة والرئيس جورج بوش «الحرب على الإرهاب» باحتلال أفغانستان والعراق، وفي هذه المرحلة هناك سلسلة من الأسباب قادت لاستقطاب مزيد من العناصر الإرهابية، وأبرز تلك الأسباب هي:
أولاً: حروب أوكرانيا والشرق الأوسط
ساهم توظيف وتوجيه الموارد السياسية والأمنية والعسكرية الأوروبية نحو مواجهة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية ثم حروب الشرق الأوسط التي بدأت منذ 7 أكتوبر الماضي، ساهم في إيجاد «ثغرات» كبيرة أمام التنظيمات الإرهابية والتكفيرية لتحقيق مزيد من الحشد والتعبئة، وتجنيد الأنصار وجمع الأموال من وراء ظهر الأجهزة الأمنية، بل وساعد على قيام «البيئة الحاضنة» لتلك المجموعات الإرهابية الأوروبية لتنظيم تظاهرات في قلب المدن الألمانية والأوروبية الأخرى.
ووفق دراسة لجامعة مدريد المستقلة فإن الحرب المستمرة في الشرق الأوسط منذ نحو عام توفر «بيئة خصبة» و«تبريرات» للقيام بعمليات إرهابية في كافة أنحاء القارة الأوروبية، وحالياً تركز أجهزة المعلومات والاستشعار الاستخباري على معالجة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وما رشح من تحديات عن الحرب بين إسرائيل من جانب ولبنان وفلسطين من جانب آخر، وكل هذا قاد إلى توحش كبير للتنظيمات الإرهابية في كافة بقاع الأرض بداية من جنوب شرق آسيا، وكافة أقاليم القارة الإفريقية، وصولاً إلى الدول الأوروبية، فمنذ 7 أكتوبر 2023 تحبط فرنسا محاولتين إرهابيتين كل شهر، وشهدت فرنسا وحدها نحو 1159 عملاً مدفوعاً بدوافع الكراهية والإرهاب.
ثانياً: ضعف التنسيق الأمني
رغم أن الدول الأوروبية، ينبغي أن يكون بينها أعلى درجات التنسيق وتبادل المعلومات حول العناصر الإرهابية العابرة للحدود المفتوحة بين هذه الدول، إلا أن الواقع يكشف عقب كل عملية إرهابية غياب هذا التنسيق حتى بين الدول المجاورة، فعلى سبيل المثال هناك تماه خاص بين العناصر الإرهابية في فرنسا وبلجيكا إلا أنه بعد تفجيرات باريس 2016، وانتقال الخلية الإرهابية من بلجيكا لتنفيذ عملياتها في فرنسا تأكد للجميع غياب التنسيق في تبادل المعلومات حول العناصر الإرهابية النشطة.
وتؤكد كل البيانات أن التنسيق بشأن العناصر الإرهابية ما زال في الحد الأدنى الذي يجب أن يكون عليه، وحتى الآن تعاني قاعدة البيانات والمعلومات المشتركة الأوروبية حول العناصر الإرهابية عدم تحديث رغم أنه منذ عام 2016، وبعدها في عام 2018، أقر الاتحاد الأوروبي «اتفاقية مجلس أوروبا لمنع الإرهاب»، وكان هدف هذه الاتفاقية هو دعم الحرب على الإرهاب، لكن هذه الاتفاقية لم تحسن من عمليات التنسيق الأمني بين مختلف الدول بالحد الذي يمنع وقوع العمليات الإرهابية أو يقلل من جمع الأموال، وتجنيد العناصر المتطرفة لصالح المجموعات الإرهابية.
ثالثاً: الحسابات الخاطئة
عندما تم القضاء على داعش في قرية الباغوز في سوريا عام 2019 انتشرت في أوروبا رؤية تقول «بإرهاق الإرهاب»، لكن تأكد أن هذه الرؤية خاطئة تماماً، وأن ما جرى عام 2019 كان فقط هو انتهاء سيطرة داعش «الجغرافية»، لكن الأفكار والأيديولوجيات المتطرفة ما تزال مستمرة، وأن جميع خلايا وداعمي التنظيم في أوروبا لم يتأثروا كثيراً بفقدان التنظيم للأرض في سوريا والعراق، وكشفت السنوات والأشهر التالية لعام 2019 خطأ هذه الرؤية، ويكفي الإشارة إلى الدواعش من الدول الأوروبية الذين ما زالوا في «مخيم الهول» في الصحراء السورية.
رابعاً: تغلغل السلفية الجهادية
كل المؤشرات، وخاصة التقرير السنوي لعام 2023 الصادر عن المخابرات الداخلية الألمانية يؤكد أن ما يسمى بجماعات «الجهادية السلفية»، والأماكن التي يسيطر عليها الإخوان المسلمين في ألمانيا وأوروبا، تقف وراء تجنيد العناصر الإرهابية الجديدة خاصة الشباب من صغار السن تحت العشرين عاماً. نفس الأمر تؤكده الشرطة الفرنسية التي قالت أن الجماعات الإسلاموية التي تتخذ من الدين ستاراً مثل «الإخوان المسلمين»، والسلفيين الجهاديين يشكلون تهديداً كبيراً للأمن القومي الفرنسي والأوروبي.
وفي تقرير لمجلس العموم البريطاني قال جهاز المخابرات الداخلية «أم أي فايف» إن الجماعات الإسلاموية المتطرفة في بريطانيا تستنزف قدرات الاستخبارات البريطانية.
خامساً: معركة الأفكار
الانتصار على الأفكار المتطرفة ينبغي أن يكون في ذات المكان والمكانة التي تحظى بها الوسائل الأمنية والاستخباراتية، لأن الإرهابي قبل أن يحمل «بندقية أو حزاماً ناسفاً» يحمل «أفكاراً خاطئة» تنكر وجود الآخر، وقد تقول الدول الأوروبية أنها قامت بما عليها في ظل ما هو متاح لها من معلومات وموارد في مكافحة الإرهاب، خاصة أن غالبية دول غرب أوروبا انضمت للتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب منذ 2014، كما نجحت الشرطة وأجهزة مكافحة الإرهاب في إحباط عشرات الهجمات الإرهابية، لكن الفشل الواضح يتعلق بفشل الدول الأوروبية لحد بعيد في «معركة الأفكار»، وليس في المعركة الأمنية.
فما يزال المتطرفون في أوروبا يحظون بالقبول وإلقاء الخطب سواء في أماكن العبادة أو على وسائل التواصل الاجتماعي، من دون أن يكون هناك مكان واضح للرواية الفكرية المضادة للإرهاب، والتي تدعو للتعايش، وقبول الآخر في المجتمعات الأوروبية، وما زال يحظى الخطاب المتطرف بقبول بين فئات المهاجرين الأقل تعليماً وغير المندمجين في المجتمع، ناهيك عن أن الدول الأوروبية لم تستطع حتى اليوم أن تفكك حالة «الغيتو» المعرفية والثقافية التي أقامتها التنظيمات الإرهابية مثل التي يقوم بها التنظيم الدولي للإخوان حول عناصره في دول مثل فرنسا والنمسا وألمانيا وهولندا وأسبانيا وبريطانيا
سادساً: الذئاب المنفردة
أكثر من 75% من العناصر الإرهابية التي كشفت عنها الشرطة الأوروبية في 2024 كانت لعناصر غير تنظيمية في القاعدة وداعش «ذئاب منفردة»، واعتنقت هذه العناصر الفكر المتطرف، وعبر وسائل التواصل حاولت تعلم تقنيات الإرهاب أو متابعة أنشطة الجماعات والتيارات الظلامية والمتشددين على الإنترنت، وكثيراً ما تلوم الأجهزة الأمنية الأوروبية نفسها لعدم متابعتها لنشاط العناصر الإرهابية على الإنترنت، أو عدم التحليل الصحيح لبعض السلوكيات البسيطة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يتأكد بعد ذلك أنها كانت مؤشر قوي على انخراط هذا العنصر في نشاط إرهابي.
سابعاً: تدفق الأموال
لا يمكن للفكرة الخاطئة والمتطرفة أن تقود وحدها لعمل إرهابي من دون تمويل، ولهذا سجلت الدول الأوروبية أسوأ أداء في «تجفيف الأموال» التي يمكن أن تستخدمها «داعش» و«القاعدة» في أوروبا، وعلى سبيل المثال ثبت أن «داعش خرسان» لديها موارد ضخمة في أوروبا دفعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتحذير من قيام هذا التنظيم بعمليات «غير نمطية» في فرنسا وأوروبا.
المؤكد أن الجماعات الإرهابية سوف تحاول استغلال ما يجري من حروب لتعميق حضورها ودعم مواردها وزيادة حصيلتها من العناصر الجاهزة لتنفيذ العمليات الإرهابية، وهو ما يدعو الدول الأوروبية كي تكون أكثر يقظة عبر مزيد من التنسيق بين مختلف الدول.
[email protected]